مجلة حوار الفكر تحاور الباحث والكاتب محمد عبد الجبار الشبوط
في هذا الحوار الذي أجرته مجلة حوار الفكر في العدد 16 الصادر في آذار 2011، يتناول الكاتب والباحث محمد عبد الجبار الشبوط الدور المحوري الذي تؤديه الأحزاب السياسية في إعادة بناء الدولة العراقية بعد عام 2003، مستعرضاً نماذج وتجارب تاريخية من الغرب لتوضيح العلاقة بين الديمقراطية الحزبية وبناء الدولة المدنية الحديثة.
ويرى الشبوط أن التجربة العراقية تميّزت بظروف معقدة جعلت عملية البناء مختلفة عن غيرها، إذ واجهت الأحزاب السياسية تحديات التأسيس في ظل غياب الرؤية الوطنية الموحدة، ووقعت في فخ المحاصصة والتوافقية بدل بناء دولة المواطنة.
ويشير إلى أن “الديمقراطية العراقية الناشئة تواجه معضلة جوهرية تتمثل في ممارسة الديمقراطية بأدوات غير ديمقراطية”، مؤكداً أن نجاح مشروع الدولة الحديثة مرهون بقدرة الأحزاب على تبني برامج وطنية مؤسسية قائمة على الكفاءة، والمواطنة، والتعددية السياسية، لا على الهويات الطائفية والعرقية.
نص الحوار
حوار الفكر: حدثنا عن دور الأحزاب السياسية في إعادة بناء الدولة مع التطرق إلى الحالة العراقية؟
محمد عبد الجبار الشبوط: تلعب الأحزاب السياسية دوراً كبيراً في الحياة السياسية للمجتمعات الحديثة، وبخاصة فيما يتعلق ببناء الدولة والنظام السياسي وسلطاته المختلفة، إضافة إلى بناء المجتمع على صعيد التنشئة السياسية واشاعة الثقافة المساعدة على عملية البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
الحزب في الأنظمة الديمقراطية هو مجموعة من المواطنين الذين يشتركون في رؤية واحدة للدولة و السلطة والمجتمع تشكل برنامجا سياسيا لهم يسعون إلى تطبيقه عبر الوصول السلمي الى السلطة عن طريق الانتخابات الدورية التي قد تخرجهم من السلطة ايضا في الدورة التالية. وحتى يكون الحزب قادرا على المساهمة في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة وجب ان يكون هو ديمقراطيا في مبادئه وبرامجه وحياته الداخلية. يجب ان يؤمن برنامجه السياسي بالتداول السلمي للسلطة، وحرية التعبير والاعلام والعمل السياسي، وحقوق الاقليات، وغير ذلك. كما يجب ان يكون قادته ديمقراطيين، بمعنى ايمانهم بالمبادئ الديمقراطية، وبمعنى قدرتهم على تجسيد هذه المبادئ على صعيد الممارسة والفعل السياسي والاجتماعي.
ومنذ ولادة الدولة الحديثة خاصة بعد معاهدات ويستفاليا في عام 1648 كان للاحزاب السياسية بهذا المعنى دور ملموس في تشكيل واعادة بناء الدول وبناء مجتمعاتها والتأثير على مواطنيها لكسب تأييدهم لتحقيق المشروع السياسي الذي تدعو اليه هذه الاحزاب. وفي هذه التجارب التاريخية كان للمثقفين والكتاب والشعراء والادباء دور ملموس ايضا في هذه الدعوات عبر انخراطهم الضمني او المعلن في نشاط هذه الاحزاب. وكان ظهور الاحزاب السياسية الحديثة من مؤشرات و إرهاصات ولادة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
حوار الفكر: كيف يمكن للنخب السياسية والثقافية في العراق أن تضطلع بدورها الحقيقي في بناء مؤسسات الدولة الحديثة، بما يجعل الإنسان محوراً وغاية للعمل السياسي؟
محمد عبد الجبار الشبوط: "تقع عملية بناء مؤسسات الدولة الحديثة على كاهل نخبها السياسية والثقافية، فكلما كانت النخبة واعية لماهية العمل السياسي ومصالح المجتمع، كلما عمدت لبناء دولة حديثة يرتقي نظامها لمصاف الدول المتقدمة حضارياً والمتخذة من الإنسان غاية وليس وسيلة لتحقيق المصالح. إن النظام السياسي في الدولة، هو انعكاس لتوجهات الأحزاب السياسية الفعالة في الصراع الاجتماعي، فإن كانت كيانات حزبية غير مؤسسية تحتكم للعنف والاستبداد فيما بينها انعكست توجهاتها على شكل النظام السياسي. وإن كانت أحزاباً سياسية مؤسسية تحتكم للحوار وصناديق الاقتراع في صراعها الاجتماعي عكست الوجه الحضاري، للنظام الديمقراطي الذي يحتكم للتصويت الشعبي للوصول إلى السلطة السياسية."
وقد تجلى هذا الدور المهم في بناء الدولة الديمقراطية في بريطانيا منذ التحركات الاولى في عام 1215 والتي ادت الى اقرار وثيقة الماجناكارتا الشهيرة وتوقيعها من قبل الملك جون بعد حرب استمرت سنة، وصولا الى جهود المفكرين العظام امثال هوبز ولوك وغيرهما مرورا بالثورة البريطانية التي ارست دعائم الحكم الملكي الديمقراطي الدستوري، وفي فرنسا حيث ادت جهود الاحزاب السياسية والمثقفين والمفكرين امثال جان جاك روسو وفولتير ومونتسكيو الى الثورة الفرنسية في عام 1789 واقامة الجمهورية الفرنسية الاولى واعلان لائحة حقوق الانسان الاولى في العالم الحديث، وفي الولايات المتحدة التي ادت فيها جهود الاحزاب والسياسيين والمفكرين الى بلورة عقد اجتماعي وطني كان اساس اقامة الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة في الولايات المتحدة.
كان لكل هذه الاحزاب في هذه التجارب التاريخية وفي غيرها من التجارب المماثلة دور كبير في تحريك الجماهير وحشدها حول مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وفي اشاعة الثقافة السياسية الجديدة التي ساهمت في تنشئة الاجيال تنشئة ديمقراطية جعلت الديمقراطية جزءا من ثقافتها السائدة وعاداتها السلوكية وعلاقاتها اليومية. يصف الاميركي دوغلاس فيث علاقة الانسان الاميركي مع الديمقراطية كالاتي:"العمل ضمن قانون واقتسام الخلافات وتقبل ادارة الاكثرية عادات نمارسها نحن الغربيين كتحصيل حاصل لأنها مندمجة في تفكيرنا ونشاطنا منذ الصغر."
وحين نتحدث عن بناء الدول يتعين علينا التمييز بين الدولة والنظام السياسي والسلطة، رغم ان عبارة بناء الدولة او إعادة بنائها قد تشمل الجميع، مرة على وجه العموم والتعميم ومرة على وجه الخصوص والتخصيص. الدولة هي الكيان الكلي المؤلف من الأرض والمجتمع والسلطة والسيادة.
حوار الفكر: كيف تقيّمون طبيعة النظام السياسي في العراق اليوم، وهل يعكس فعلاً المفهوم العلمي للنظام السياسي بوصفه منظومة لتوزيع القيم وصنع القرارات وتحقيق التكامل الاجتماعي؟
محمد عبد الجبار الشبوط: أما النظام السياسي فهو كما عرفته موسوعة العلوم السياسية " مجموع التفاعلات والأدوار المتداخلة والمتشابكة التي تتعلق بالتخصيص السلطوي للقيم ، أي بتوزيع الأشياء ذات القيمة بموجب قرارات سياسية ملزمة للجميع (ديفد استون )،أو التي تتضمن الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام الإرغام المادي المشروع في سبيل تحقيق تكامل وتكيف المجتمع على الصعيدين الداخلي والخارجي (جابرييل الموند ) ،أو التي تدور حول القوة والسلطة والحكم (روبرت دال)، أو التي تتعلق بتحديد المشكلات وصنع وتنفيذ القرارات السياسية ".
اما السلطة فهي تنقسم الى ثلاثة فروع هي السلطة التنفيذية و السلطة التشريعية والسلطة القضائية..
قد ينصرف الذهن الى دور الاحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية والناشطين على مستوى الفكر والثقافة والادب الى بناء كل هذه العناصر معا، خاصة في حالة عدم وجود الارض كما فعل الرسول محمد في سعيه للحصول على ارض لأقامة الدين الجديد، وهي الجهود التي تكللت بالذهاب الى المدينة، وفي حالة كون الارض محتلة من قبل قوات اجنبية فيتعين تحريرها اولا من اجل اقامة الدولة، كما فعلت الثورة الجزائرية. كما قد تقوم الاحزاب بدور مهم في تشنئة المجتمع والعمل على اشاعة ثقافة سياسية جديدة تمهد لبناء الدولة المأمولة، والتبشير بها فكريا واعلاميا. ويكون دور الاحزاب في اعلى درجات وضوحه في العمل على اقامة سلطة ونظام سياسي يكون تجسيدا لمفهومها وتصورها عن الدولة التي تسعى الى اقامتها.
وعليه فان دور الاحزاب السياسية يتفاوت بحسب الحالة القائمة من السعي الى توفير كل عناصر الدولة الاربعة، الى اقامة النظام السياسي الجديد، او الى مجرد بناء سلطة سياسية جديدة على انقاض سلطة قديمة، بدون التوجه الى اعادة بناء الدولة كلها من جديد، وهذا ما يحصل عادة في الانظمة الديمقراطية التي تؤمن بتداول السلطة سلميا، حيث تتعاقب الاحزاب السياسية على السلطة وفقا لنتائج الانتخابات الدورية السلمية.
تلعب الأحزاب إذا دوراً مهماً في بناء الدولة على صعيد: إيجاد الأرض اللازمة لبناء الدولة، وبناء الأمة أو الشعب الذي يشكل عمود هذه الدولة، وفي بناء النظام السياسي الذي تدار بواسطته الدولة تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً.
وتتعاون الاحزاب في هذا الفعل التاريخي الكبير مع كل الطاقات والفعاليات البشرية الموجودة والتي يجسدها المفكرون والسياسيون والعلماء والادباء والشعراء والمناضلون من النساء والرجال.
ويعتمد نجاح الاحزاب في هذه المهمة التاريخية على قدرتها على طرح برنامج وطني ديمقراطي لبناء الدولة المدنية الحديثة، وعلى ايمان قادتها بالديمقراطية فكرا وممارسة، وعلى قدرة هذه القيادة على توظيف الموارد (وفي مقدمة هذه الموارد الجماهير) وادارتها بصورة ناجحة في مشروع بناء الدولة،وعلى قدرتها على الاستفادة من كل الظروف والمتغيرات المحلية والخارجية، ومواجهة الصعوبات التي تواجه عملية بناء الدولة.
الحالة العراقية
يختلف دور الاحزاب السياسية العراقية في بناء الدولة العراقية الجديدة بعد سقوط سلطة التغلب الدكتاتورية في عام 2003 عن دور الاحزاب السياسية في الدولة الاخرى التي اتيت على ذكر بعضها انفا. وكان هذا الاختلاف ناشئا من ظروف موضوعية وذاتية تميزت بها الحركة السياسية العراقية باحزابها المختلفة والكثيرة.
قبل سقوط النظام، واعتبارا من عام 1968 كانت الاحزاب السياسية العراقية، وكان اغلبها احزابا سرية، قد اختارت، وعلى مراحل متدرجة، نهج معارضة النظام السياسي الذي اقامة حزب البعث العربي الاشتراكي بعد استيلائه على السلطة بانقلاب عسكري في 17 تموز من ذلك العام.
وعلى مدى سنوات المعارضة التي استمرت 35 عاما هي عمر النظام نفسه، كانت المعارضة العراقية تنقسم الى اربعة محاور اساسية هي:
المحور الأول: المعارضة الكردية، وهي حركة تحرر قومي ترمي الى تحقيق الاهداف القومية للشعب الكردي، من خلال الشراكة الثنائية في الوطن الواحد (في عهد الجمهورية الاولى بقيادة عبد الكريم قاسم) اولا، ثم من خلال الحكم الذاتي (كما عبرت عنه اتفاقية اذار مع النظام البعثي) ، واخيرا (بعد عام 1991) من خلال حق تقرير المصير الذي تم التعبير عنه باختيار العلاقة الفدرالية مع العراق في اطار دولة اتحادية (بعد سقوط النظام البعثي). كان تركيز الحركة الكردية على الهم القومي للشعب الكردي، ولم تجد الوقت الكافي للتنظير الكافي لمسألة الدولة واعادة تشكيل الدولة العراقية، باستثناء اقتران شعار الديمقراطية للعراق مع شعار الحكم الذاتي لكردستان.
المحور الثاني: المعارضة الاسلامية بشقيها السني والشيعي، وكانت هذه منشغلة بالتنظير لاقامة دولة او حكومة اسلامية تقوم بتطبيق الشريعة الاسلامية. ومع ان هذه الحركة توقفت عمليا عن التبشير بالدولة الاسلامية منذ اوائل الثمانينات، الا انها لم تقم بطرح تصور بديل للدولة العراقية الجديدة، أي لم تقم بطرح برنامج لاعادة بناء الدولة، بعد سحب مشروع الدولة الاسلامية من التداول.
المحور الثالث: المعارضة العلمانية، التي كان يتصدرها الحزب الشيوعي الذي كان هو الاخر منشغلا بالمقولات الماركسية اللينينية عن الدولة الاشتراكية بقيادة الطبقة العاملة وحزبها الطليعي السياسي. وحين انهار الاتحاد السوفياتي وتراجعت الماركسية اللينينية بوصفها مشروعا ايديولوجيا سياسيا، لم يطرح الحزب الشيوعي برنامجا سياسيا جديدا ومختلفا وبديلا لاعادة بناء الدولة العراقية.
المحور الرابع: المعارضة القومية العروبية التي كانت اقل حجما ودورا من اطراف المحاور الثلاثة السابقة، ولم يعهد عنها انها طرحت مشروعا لأعادة بناء الدولة العراقية الجديدة.
والخلاصة ان اطراف المعارضة العراقية، بمحاورها الاربعة، كانت مشغولة، طيلة السنوات التي سبقت التغيير، بمعارضة النظام البعثي من جهة، وبرؤاها الايديولوجية او القومية من جهة ثانية، ولم تقم بانضاج تصور وبرنامج لاعادة بناء الدولة العراقية الجديدة بعد سقوط نظام صدام. ولم تشهد ساحات المعارضة العراقية في المنفى، في ايران وسوريا وبريطانيا، وغيرها، نقاشات جادة عن هذه المسألة، رغم حصول الكثير من النقاشات بين هذه الاطراف حول مسائل سياسية كثيرة اخرى. بل ان هذه الاطراف كانت مشغولة ايضا بمشروع قيادة المعارضة، اكثر من انشغالها بمشروع اسقاط النظام البعثي، في مستوى اول، ومشغولة بالعمل على اسقاط النظام البعثي، اكثر من انشغالها على مشروع الدولة الجديدة بعده، في مستوى ثانٍ. لم يجر طرح مشروع بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة في ادبيات الاحزاب العراقية في المنفى طيلة سنوات المنفيين ولم تجر اية مناقشات جادة حول هذا الموضوع.
في شهر كانون الاول عام 2002 كتبتُ ورقة عن الانتقال من حالة المعارضة الى حالة الدولة، قلت فيها:"ومع تزايد امكانيات واحتمالات حصول التغيير السياسي وسقوط النظام الدكتاتوري في العراق، تتأكد الحاجة الى انتقال القوى السياسية العراقية من حالة المعارضة الى حالة الدولة والسلطة والحكم. ولا يتجسد هذا الانتقال في تبدل الحالة النفسية والشعورية لدى المعارضين، فقط، وانما في توجههم نحو وضع خطط بناء الدولة ورسم السياسات وتشكيل الاجهزة، ايضا."
ودعت الورقة الى بناء الدولة العراقية الجديدة على "اسس وطنية ديمقراطية انسانية تحترم الهوية الاسلامية للمجتمع العراقي؛ وليس عبر الحل السياسي الطائفي الذي يعني تقاسم مراكز الدولة القيادية (رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة البرلمان وقيادة الجيش وغيرها) بين المكونات الدينية او المذهبية او القومية للمجتمع."
وبينت الورقة ان الدولة العراقية الجديدة يجب ان تبنى على الاسس التالية:
أولاً، الاليات الديمقراطية، بمعنى اسناد المناصب العليا في الدولة الى الارادة الشعبية المشخصة اما بالاستفتاء العام المباشر، او عبر المجالس التمثيلية، او كلاهما. وهذا يتطلب توفير الاسس الدستورية والقانونية لضمان الحريات السياسية والمدنية والتعددية الحزبية وقيام المؤسسات التمثيلية، وهي امور جوهرية لضمان التعبير الحر عن الرأي الشعبي، كما يتطلب اقرار مبدأ التداول السلمي للسلطة.
ان ديمقراطية الدولة لا تعني:
أ.دكتاتورية الاغلبية واحتكارها للسلطة، او ادوات الوصول اليها.
ب. او اضطهاد الاقلية، ومصادرة حقها في المشاركة.
ج. او انفراد الاقلية بالسلطة والسيطرة.
ثانياً، الوطنية، بمعنى ان الدولة تعتبر ان الكفاءة الشخصية والمواطنة الصالحة اساس في تولي المناصب والمسؤوليات في الدولة والمجتمع. ان الامتيازات الطائفية مثلها مثل الاضطهاد الطائفي ظواهر متناقضة مع الطبيعة الوطنية للدولة. ان المشاركة الاجتماعية العامة في المناصب العامة، بمعنى مساهمة مختلف التكوينات الاجتماعية في تولي المناصب دليل على ديمقراطية الدولة ووطنيتها، كما ان انحصار تولي المناصب العليا بفئة قليلة طائفة كانت ام حزبا ام غير ذلك، بالشكل الذي تقوم عليه الدولة العراقية الحالية، امر يتناقض مع الوطنية والديمقراطية.
ثالثاً، اللامركزية، او الفيدرالية، يجب ان تكون الدولة العراقية دولة لا مركزية، بمعنى التوسع في توزيع السلطات بين المركز وبين الاقاليم او الولايات او المحافظات بالشكل الذي يحول دون تمركز السلطة في يد الحكومة المركزية وهذا يتطلب اعطاء المحافظات والمسؤولين المحليين صلاحيات واسعة في الامور التي تخص محافظاتهم ومناطقهم ومسؤولياتهم. وستبقى قضايا الدفاع والسياسة الخارجية والتخطيط الاقتصادي ضمن صلاحيات السلطة المركزية. اما مسائل التعليم والمناهج الدراسية والاعلام والتنمية الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والصناعية فسوف تحتل مساحة كبيرة في صلاحيات الادارات المحلية، لأن هذه الامور يجب ان تتم بالتناسب مع المتطلبات المحلية للمحافظات سواء من الناحية الطبيعية ام الاجتماعية والثقافية.
وسوف تحتل المنطقة الكردية (كردستان) موقعاً خاصاً في إعادة النظر هذه بعد الاقرار بحق تقرير المصير بالنسبة لأكراد العراق الذين اختاروا الفيدرالية كصيغة لتقرير المصير. ان الدولة العراقية الجديدة يجب ان تحترم هذه الارادة.
رابعاً، الانسانية، بمعنى ان الدولة العراقية يجب ان تقر مبادئ حقوق الانسان السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية، المعلنة في الوثائق العالمية، ويجب ان تدخل هذه الحقوق في صلب تشريعات الدولة بما في ذلك الدستور الدائم. ان الدولة العراقية الجديدة يجب ان تتقيد بهذه الحقوق في تشريعاتها وممارساتها وعلاقاتها مع مواطنيها. ان انتهاكات حقوق الانسان بما في ذلك اشكال التمييز الطائفي او القومي يجب ان تعتبر من الجرائم التي يعاقب عليها القانون.
خامساً، القانونية والدستورية، بمعنى ان الدولة العراقية يجب ان تكون "دولة القانون" التي تعلو سلطة القانون فيها على سلطة الحاكم، وتكون ممارساتها وممارسات مواطنيها والعلاقات بينهم قائمة على اساس القانون.
سادساً، احترام الهوية الاسلامية للمجتمع العراقي، مع حفظ الدين من تدخل الدولة في شؤونه الخاصة.
وتم توزيع الورقة في مؤتمر المعارضة العراقية الذي عقد في لندن. لكن الموضوع بقي دون مناقشة جادة.
الدور الاميركي
اختصرت الولايات المتحدة الطريق على المعارضة العراقية في مسألة اسقاط النظام البعثي من جهة، ومسألة بناء الدولة الجديدة من جهة ثانية. ثم دعت المعارضة العراقية للمشاركة في السلطة الجديدة والمشاركة في بناء الدولة الجديدة.
لكن المشكلة ان الولايات المتحدة كان قد اعدت خطة الحرب والانتصار فيها بصورة جيدة، بحيث ادت الحرب الى اسقاط النظام باقل مايمكن من الخسائر واقل ما يمكن من الوقت. لم يكن الاعداد لمسالة بناء الدولة على نفس المستوى من الجدية. بل جرى التعامل مع هذه المسالة في بعض الحلقات التي سبقت موعد شن الحرب بشيء من الاستخفاف والاستهتار بالمسالة رغم خطورتها وتعقيدها. واية ذلك اناطة حكم العراق وقيادة عملية بناء الدولة الجديدة بالسفير بول بريمر الذي لم يكن ذا خبرة كافية في هذا الموضوع من جهة، ولم يكن ذا خبرة كافية بالملف العراقية من جهة ثانية. وكان تكليفه بالامر اشبه بتعيين بالهبة التي نزلت عليه من السماء، دون اعداد مسبق لها. ومع ان مشروع مستقبل العراق الذي اعدته وزارة الخارجية برئاسة توم ووريك، طور بعض الافكار المتعلقة ببناء الدولة، الا ان وزير الدفاع الاميركي السابق دونالد رامسفيلد اهمل المشروع.
باشر بريمر بناء الدولة العراقية الجديدة انطلاقا من انطباعات عامة، ربما اكدها بعض رموز المعارضة العراقية الذين انتقلوا الى العراق. وكان مشروع بريمر ينطلق من فكرة بناء الدولة بتقاسمها على اساس المحاصصة بين الطوائف والاعراق والاحزاب وليس على اساس وطني وديمقراطي. وكانت تلك بداية "عيوب التأسيس" التي رافقت عملية بناء الدولة بعد سقوط النظام البعثي، وهي عيوب رافقتها الكثير من "اخطاء الممارسة" التي ارتكبتها الاحزاب السياسية العراقية التي كانت معارضة واصبحت الان احزاب السلطة. وكان من عيوب التأسيس ما يلي:
عيوب التأسيس
العيب الأول: عدم بلورة مشروع واضح للدولة والاتفاق عليه بما يمكن ان يشكل ميثاقا وطنيا اجتماعيا جامعا، وفكرة حاكمة للدستور والاعمال ذات الصلة. دخلت القوى السياسية العراقية، قوى الداخل والخارج، العملية السياسية بعد تشكيل الحكم في عام 2003 بدون رؤية مؤحدة للدولة العراقية. دخلت كقوى مكونات، وليس كقوى سياسية ذات برنامج سياسية لبناء الدولة، وهي لا تثق بعضها ببعض الاخر، ويسعى كل منها الى الحصول على اكبر ما يمكن من تركة النظام المقبور. وكان من المتوقع ان ينعكس هذا على نص الدستور الدائم. عادة ما يكون الدستور الدائم بمثابة عقد اجتماعي وطني يؤسس لبناء الدولة الوطنية. لكن يصعب ان نقول الشيء ذاته عن الدستور العراقي. بل ان غياب العقد الاجتماعي الوطني ادى الى تجاوز الدستور في حالات كثيرة. الدستور الحالي لم يحل هذه المشكلة.
العيب الثاني: عدم تبلور المجال السياسي واختلاطه بالمجالات الاخرى في المجتمع: كان من الاثار السلبية للحكم الدكتاتوري الذي استمر لثلاثة عقود ونصف، ان منع تطور المجال السياسي للمجتمع العراقي. وهذا ما يفعله كل نظام دكتاتوري في المجتمع. في السنوات التي تلت سقوط النظام لم نتمكن من بناء مجال سياسي جديد فاختلطت السياسية بغيرها بشكل ربما كان غير ايجابي. يؤدي هذا الى ممارسة السياسة باساليب غير سياسية، واحيانا اساليب غير سلمية ايضا. غياب المجال السياسي او اختلاطه يجعل من الصعب ترسخ تقاليد سياسية ديمقراطية مدنية في البلد.
العيب الثالث: عدم التمييز الواضح بين الدولة والحكومة: بقيت الحكومات التي تولت السلطة في العراق، منذ العهد البعثي الصدامي لا تميز بشكل واضح بين الدولة والحكومة. وبلغ عدم التمييز ذروته على يد صدام حسين، الذي كان لسان حاله "انا الدولة، وانا العراق". لم تتحرر الطبقة السياسية الراهنة بعد من هذا العجز عن التمييز والتفريق بين الدولة والحكومة.
العيب الرابع: تركيز التوجه نحو تشكيل الحكومة وتقاسم سلطاتها وليس نحو بناء الدولة: ادى العيبان الاول والثالث الى انغماس الطبقة السياسية بلعبة تقاسم مكاسب ومغانم السلطة اكثر من التوجه نحو بناء الدولة. في وقت متأخر جدا قال رئيس الوزراء نوري المالكي "اليوم يبدأ العمل من اجل بناء الدولة وليس فقط الحكومة". كان هذا من عوامل تراجع عمليات البناء والاعمار وتكثيف الجهود لبناء مؤسسات الدولة المختلفة، بما في ذلك عدد القضاة والمحاكم وعدد الابنية المدرسية وغير ذلك.
العيب الخامس: اولوية المكوّن الطائفي او العرقي على المواطن في بناء الدولة وتشكيل السلطة. تصرفت الطبقة السياسية بعد التغيير بعقلية المكونات التي تدعي تمثيلها وليس بعقلية المواطنين الذين يفترض انها تمثلهم وتعبر عنهم. وانعكس هذا على الذهنية العامة للدستور التي انطلقت من المكونات العرقية والمذهبية والدينية ولم تنطلق من المواطنة. اضحت الدولة والسلطة تتشكل على اساس تمثيل مكونات ومشاركة مكونات وما سمي بالتوازن الوطني، والمقصود به التوازن بين المكونات. ادى هذا الى تعذر اقامة علاقة مباشرة بين المواطن والدولة، مقابل بروز حلقة وصل جديدة بينهما هي المكوّن. فكلي تكون وزيرا للدفاع يجب ان تكون سنيا، ولكي تكون وزيرا للداخلية يجب ان تكون شيعيا. وهكذا.
العيب السادس: المزج غير الخلاق بين الديمقراطية التوافقية والديمقراطية التعددية: هذان نظامان مختلفان في الديمقراطية. الاول يقوم على اساس الائتلاف والاجماع والتمثيل النسبي والحكم الذاتي. ومعه تغيب امكانية المعارضة. والثاني يقوم على اساس الاغلبية السياسية والمعارضة واحترام الاقلية. حاولت الطبقة السياسية تطبيق النظامين في ان واحد. شكلت البرلمان الذي يفترض فيه ان يكون مكان ممارسة الديمقراطية التعددية، لكنها لم تشكل مؤسسة لممارسة الديمقراطية التوافقية. ادى هذا الى عرقلة عمل البرلمان و الحكومة معا، في الحالات التي افترضت الطبقة السياسية ان امرا ما بحاجة الى قرار توافقي، أي اجماع، ذهبت الى البيوت وليس الى البرلمان، لصنع هذا القرار التوافقي.
العيب السابع: المحاصصة التوافقية: كان هذا العيب تحصيل حاصل كل العيوب السابقة. تسعى الطبقة السياسية الى تقاسم كل اجهزة الدولة بما فيها الحكومة والمؤسسات التشريعية والتنفيذية المختلفة بالتقاسم بينها على اساس حزبي او طائفي او عرقي. كل المواقع يجب ان تقبل القسمة على عدد الكتل السياسية التي تدعي تمثيل المكونات. تؤدي المحاصصة الى اصابة الدولة بالشلل، والى تراجع قيمة الكفاءة بل المواطن في تولي المناصب. هذه نسخة اخرى للطائفية السياسية المطبقة على سبيل المثال في لبنان.
العيب الثامن: الخلط بين المكون الاجتماعي والكيان السياسي: بناء على فكرة التوافقية والمحاصصة، برزت فكرة حكومة الوحدة الوطنية، ثم فكرة حكومة الشراكة الوطنية. والمقصود في الحالتين مشاركة الكل في الحكومة. لكن ما هو المقصود بالكل؟ في البداية كان الذهن ينصرف الى المكونات. فصارت كل الدولة ثلاثية الابعاد: شيعة وسنة وكرد، مع اقليات. بعد الانتخابات الاخيرة صار للشراكة معنى اخر، وهو مشاركة كل الكيانات السياسية، أي الاحزاب، في الحكومة. لا تتطلب الانظمة الديمقراطية، حتى في الهند ذات التعددية الهائلة، مثل هذا الشرط بطبيعة الحال.
العيب التاسع: فكرة الاستحقاق الانتخابي: هذه فكرة غريبة واختراع عراقي بامتياز. تتصور الطبقة السياسية ان من حق كل كتلة فازت بالانتخابات حتى ولو كان الفوز على شكل مقعد او معقدين في البرلمان ان تشارك في الحكومة. وتم حساب المقاعد البرلمانية والحقائب الوزارية على اساس النقاط. كل "رأسين" بنقطة، ولكل منصب حكومة عدد من النقاط. اخترع العراقيون القدامي العجلة ونظام المجلس. واخترع العراقيون المعاصرون نظام الاستحقاق الانتخابي. الاختراعات القديمة ادت الى تقدم البشرية، لكن الاختراعات الحديثة تؤدي الى عرقلة العملية السياسية!
العيب العاشر: العزوف عن المعارضة: بموجب الاستحقاق الانتخابي لم يعد ثمة مكان للمعارضة. يعارض السياسي العراقي اذا تم استبعاده من المشاركة في حكومة الشراكة الوطنية المشكلة على اساس الاستحقاق الانتخابي وليس ايمانا بان المعارضة موقع طبيعي ضمن النظام الديمقراطي. لم يتم التمييز بين الحكم الحكومة. الحكم يتألف من الحكومة والمعارضة. تعتقد الاحزاب العراقية ان من لا يشترك في الحكومة مقصي عن المشاركة في الحكم. غياب المعارضة يمثل نقصا كبيرا في بناء الديمقراطية حيث تضعف امكانية المحاسبة والمراقبة.
العيب الجوهري
لكن العيب الجوهري في بناء الديمقراطية العراقية هي ان عملية البناء تتم على ايدي اشخاص غير ديمقراطيين. عندنا الان ديمقراطية، لكن ليس لدينا ديمقراطيون. كان الكثير من قادة الدولة الحاليين يجاهرون برفضهم للديمقراطية، تحت ذرائع شتى، اهمها مخالفة الديمقراطية للاسلام. احتل هؤلاء مواقع مهمة في الدولة، بعضها حساسة الى درجة كبيرة، كوزارة التربية التي تولها في حكومة نوري المالكي الاولى شخص معروف في عدائه ورفضه للديمقراطية. اولت الثورة الفرنسية اهتماما خاصا لوزارة التربية من اجل ان تقوم باعداد جيل ديمقراطي. كان على الديمقراطية العراقية الناشئة ان تعطي هذه الوزارة الى شخصية تؤمن فعلا بالديمقراطية، فكرة وممارسة، من اجل القيام بنفس المهمة.
لم يقتصر الامر على عدم الايمان بالديمقراطية، بل تعداه الى الالتباس في فهمها. بعض بناة الدولة ممن اضطر الى القبول بالديمقراطية فهمها على انها حكم الاكثرية والانتخابات. ما عدا ذلك لم يكن للديمقراطية وجود لدى هؤلاء. وكان سوء الفهم هذا من اسباب عيوب التأسيس التي اشرت الى بعضها في الصفحات السابقة. ادى هذا الى القول بان الديمقراطية التمثيلية التي يفترض ان الاحزاب السياسية العراقية تطبقها الان لم تعد كافية، وغير قادرة على تحقيق المغزى الجوهري للديمقراطية وهو اتاحة اكبر فرصة ومساحة ممكنة لمشاركة المواطنين في الحياة العامة، كما ينص الدستور العراقي على الاقل. ادرك الكثير من المفكرين السياسيين في الغرب عدم كفاية الديمقراطية التمثيلية على تحقيق المعزى الجوهري للديمقراطية بعد دخول البشرية الى عصر المعلوماتية. يقول هؤلاء ان الديمقراطية التمثيلية كانت كافية في العصر الصناعي الذي انقضى الان حيث تدخل البشرية بسرعة الى عصر المعلوماتية. وهم يقولون ان على البشرية ان تخترع انواعا جديدة من الديمقراطية تكون كفيلة بتحقيق المغزى الجوهري من الديمقراطية. وكان من هؤلاء:
كليمنت بيزولد Clement Bezold الذي نظر لمفهوم "الديمقراطية التوقعية" Anticipatory Democracy في كتابه "الديمقراطية التوقعية: البشر في سياسة المستقبل" في عام 1978.
وكان الفن توفلر Toffler "اول من نحت اسمها وتكلم عن مضمونها" في كتابه "صدمة المستقبل" عام 1970.
وجون كين John Keane الذي دعا الى "الديمقراطية الرقابية" Monitory Democracy في كتابه "حياة و موت الديمقراطية" عام 2009.
ودعا بنجامين باربرBenjamin Barber الى "الديمقراطية القوية" Strong Democray،او "ديمقراطية المشاركة" في كتابه الذي يحمل نفس العنوان عام 1984.
ويدعو الكثيرون اليوم الى "الديمقراطية شبه المباشرة"، وهي مزيج من الديمقراطية المباشرة التي كانت مطبقة في اثينا والمطبقة الان في بعض كانتونات سويسرا، والديمقراطية التمثيلية المعروفة.
حتى هذه اللحظة لا يبدو ان الاحزاب السياسية التي تتولى السلطة في العراق مهتمة بمعالجة نواحي القصور في الديمقراطية التمثيلية والانتقال الى مستوى اعلى من الديمقراطية يحقق المزيد من مشاركة المواطنين في الحياة السياسية العامة عملا بنص وروح المادة 20 من الدستور العراقي التي تقول:" للمواطنين، رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة، والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشيح."
المعهد العراقي للحوار الراعي اللوجستي لمعرض بغداد الدولي للكتاب يفتتح جناحه الخاص في المعرض
المعهد العراقي للحوار يصدر "الحقيبة الدبلوماسية" للدكتور كرار البديري
Official agreement between Iraqi Institute for Dialogue and the Iraqi Media Network to sponsor The Seventh Annual International Conference of “Baghdad Dialogue” 2025
استكتاب خاص بمؤتمر حوار بغداد الدولي السابع لكتابة أوراق بحثية
دعوة استكتاب في العدد (79) من مجلة "حوار الفكر"
إشادات بحوار بغداد الدولي: تعزيز دور العراق المحوري ونقطة التقاء للرؤى
رئيس الوزراء: طريق التنمية سيجعل العراق قوة اقليمية سياسة واقتصادية
تعليقات الزوار