00:00:00
توقيت بغداد
2025ديسمبر10
الأربعاء
16 °C
بغداد، 16°
الرئيسية أخبار نشاطات الندوات إتصل بنا

ترجمة المعهد العراقي للحوار - ديفيد كاتلر

ما الذي تُشير إليه الاستراتيجية القومية الأمريكية الجديدة فعلياً بالنسبة لأوروبا؟

تمثل الاستراتيجية القومية الأمريكية الجديدة تحوّلاً حاسماً في مقاربة واشنطن تجاه أوروبا. فبينما تعيد التأكيد على أهمية الروابط عبر الأطلسي، تعيد صياغة تصورها لروسيا، وترفع سقف توقعاتها بشأن قدرة أوروبا على الاعتماد على نفسها، وتضع مستقبل أوكرانيا ضمن تسلسل دبلوماسي أكثر إحكاماً بقيادة الولايات المتحدة.

بالنسبة لدول المواجهة في الخط الأمامي، فإن الرسالة واضحة: تدخل أوروبا مرحلة أكثر تطلباً في العلاقة مع الولايات المتحدة، مرحلة تعتمد فيها قدرتها على الردع والاستثمار ورسم شروط الاستقرار الإقليمي على إمكاناتها الذاتية، وليس على اتساع الحضور الأمريكي. في هذا التعليق، يستعرض ديفيد كاتلر الدلالات الفعلية لهذه الاستراتيجية بالنسبة لأوروبا — ولماذا ستختبر السنوات المقبلة تماسك العلاقة عبر الأطلسي وقدرة أوروبا على الانضباط الاستراتيجي.

الإستراتيجية القومية ليست مجرد تحديث دوري للسياسات الأمريكية، بل تعكس — خاصة بالنسبة لأوروبا ودولها الأمامية — نشوء عقيدة استراتيجية أمريكية جديدة تعيد ترتيب الأولويات العالمية، وتعيد تعريف أدوار الحلفاء، وتسعى لتحقيق الاستقرار في أوروبا بما يسمح لواشنطن بتحويل تركيزها نحو المحيطين الهندي والهادئ، والأمريكيتين. وإذا كانت الوثيقة تُقرأ في واشنطن كخيار براغماتي، فإن وقعها في أوروبا هو أشبه بنقطة تحول استراتيجية.

تقسيم أوضح للمسؤوليات

تبرز في الاستراتيجية قسمة جديدة للمهام: تتوقع واشنطن من أوروبا أن تتحمل مسؤولية أكبر بكثير عن دفاعها الذاتي، وفق إطار دبلوماسي محدد بإحكام ضمن التسلسل العالمي الأمريكي. تدعو الوثيقة إلى الوحدة والاستعجال والتسليح المتسارع، لكنها تترك هامشاً محدوداً لأوروبا لصياغة الشروط السياسية لأمنها الإقليمي. وستحدد الافتراضات المضمّنة في الاستراتيجية مسار السياسة الأمريكية لسنوات، وعلى أوروبا أن تقرأها بوضوح.

ثلاثة أسئلة رئيسية تحدد اتجاه استجابة أوروبا:

كيف تعيد الاستراتيجية تعريف التهديد الروسي؟ ما الذي تعنيه لدعم واشنطن لأوكرانيا؟ وكيف تعيد صياغة تماسك العلاقة عبر الأطلسي في نظام دولي أكثر تفككاً؟

الإجابات تكشف فجوة متسعة في تصور التهديد بين الطرفين — ربما الأكبر منذ نهاية الحرب الباردة. أوروبا تدخل علاقة أكثر تطلباً: مسؤولياتها تكبر، ونفوذها يتقلص.

روسيا في الاستراتيجية: الاستقرار بدلاً من الردع

الرسالة الأكثر إثارة للقلق بالنسبة لدول الخط الأمامي هي طريقة إعادة تعريف روسيا. فبدلاً من تصوير موسكو كخصم استراتيجي رئيسي تحدد نواياه مستقبل الأمن الأوروبي، تُقدِّم الاستراتيجية روسيا كتحدٍّ يمكن الحد من مخاطره — عبر الانخراط الدبلوماسي وتجديد مساعي "الاستقرار الاستراتيجي".

هذا يمثل انحرافاً كبيراً عن الاستراتيجيات الأمريكية السابقة. فبدلاً من جعل الردع حجر الزاوية، تركز الوثيقة على خفض التصعيد، وتقليل التوترات، وإعادة فتح قنوات الحوار. المغزى واضح: تسعى واشنطن إلى تثبيت البيئة الأمنية — رسمياً أو عملياً — بغية إعادة توجيه مواردها وأولوياتها نحو مناطق أخرى. إنه نهج يسعى إلى تجميد المخاطر لا مواجهتها، ويتعارض مع رؤية دول البلطيق والشمال التي ترى الاستقرار ثمرة لضغط عسكري وسياسي مستدام.

تعتمد الاستراتيجية على فرضيتين لا تتفق معهما دول المواجهة:

أن طموحات روسيا قابلة للتفاوض،

وأن حرب أوكرانيا هي انحراف وليس امتداداً لسلوك روسي طويل الأمد قائم على الإكراه.

تعتبر دول الخط الأمامي روسيا قوة تعبئ نفسها لمواجهة طويلة الأمد، بينما ترى الاستراتيجية الأمريكية أن سلوك موسكو قابل للتطبيع.

كما ترفع الوثيقة من شأن التهديدات الداخلية في أوروبا — مثل الشيخوخة الديموغرافية وضعف التماسك الاجتماعي والتباطؤ الاقتصادي — باعتبارها أخطر على المدى الطويل من العدوان الروسي نفسه. ورغم واقعية هذه التحديات، إلا أن هذا الطرح يتعارض مع البناء الأمني في البلطيق الذي يقوم على دمج القوة الداخلية والردع الخارجي.

وتضع الاستراتيجية الولايات المتحدة في موقع القيادة لأي مسار دبلوماسي مستقبلي مع موسكو، ما يعني مطالبة أوروبا بالتماهي مع تسلسل دبلوماسي وسياسي تقوده واشنطن، في الوقت الذي يتطلب الصراع في أوكرانيا توسعة الدور الأوروبي وليس تضييقه.

النتيجة هي فجوة بنيوية بين تقييم واشنطن وتقييم دول المواجهة: ترى الولايات المتحدة أن روسيا تحدٍّ يجب تثبيته بهدف التركيز على أولويات أخرى، بينما ترى الدول الأمامية خصماً يعيد بناء قوته العسكرية وقاعدته الصناعية، ويستعد لمواجهة ممتدة. وفي هذا السياق، تقترب نافذة إعادة تسليح أوروبا من الإغلاق — وروسيا ستكون أخطر في 2030 مما كانت عليه في 2022.

أوكرانيا: الإسراع نحو التسوية، وليس بناء الأمن طويل الأمد

تعمّق الاستراتيجية هذا التباين عبر مقاربتها لأوكرانيا. فهي تعلن بوضوح أن مصلحة الولايات المتحدة هي التوصل إلى "وقف سريع للأعمال العدائية… لاستعادة الاستقرار الاستراتيجي مع روسيا". هذا تحول كبير: فالاستراتيجية تدعو إلى إنهاء سريع للحرب بدلاً من تحقيق نتيجة استراتيجية حاسمة.

تركز الوثيقة على إعادة الإعمار، لكنها لا تقدم تصوراً لردع طويل الأمد.

بالنسبة لأوروبا، وبخاصة دول المواجهة، فإن هذه المقاربة تعني أن أوكرانيا بالنسبة لواشنطن ملف يجب إغلاقه لا بنية أمنية يجب بناؤها. تترك الاستراتيجية أوروبا أمام مسؤولية أكبر لتحديد مستقبل أوكرانيا الاستراتيجي، بينما تحتفظ الولايات المتحدة بحق التحكم في توقيت التسوية.

الخطر، من وجهة نظر أوروبا الأمامية، هو التوصل إلى وقف إطلاق نار لا يعالج دوافع روسيا البنيوية لاستمرار الصراع، ما يعيد إنتاج الأزمة لاحقاً.

الدبلوماسية مطلوبة — لكن الدبلوماسية بلا ردع فعّال تعني سلاماً مؤجلاً لا سلاماً دائماً.

توقعات أشد صرامة لتقاسم الأعباء

ترسخ الاستراتيجية ما يجري منذ سنوات: نموذج "العقاب الحازم" للعلاقة عبر الأطلسي. أوروبا مطالبة بالدفاع عن نفسها بدرجة أكبر، في وقت توجه فيه واشنطن تركيزها نحو مسارح أخرى.

هذا يتطلب من أوروبا أكثر من مجرد زيادة ميزانيات الدفاع. تحتاج إلى:

قوة قتالية حقيقية

دفاع جوي وصاروخي

قدرات نيران بعيدة المدى

عمق لوجستي

قاعدة صناعية دفاعية متماسكة

مرونة وطنية ومجتمعية

وتحتاج صناعتها الدفاعية للانتقال من منافسات وطنية إلى منظومة استراتيجية مشتركة. كما يجب على الناتو تطوير صيغة سياسية تضمن توفير القدرات للدول الأكثر تعرضاً للتهديد الروسي.

تماسك في تحالف بات أكثر لامساواة

تعكس الاستراتيجية مرحلة أكثر اعتماداً على المصالح في العلاقات عبر الأطلسي. فالتماسك لم يعد هدفاً بذاته، بل وسيلة لضمان استقرار أوروبا بما يسمح لواشنطن بالتركيز على ملفات أخرى.

تظهر ثلاثة اتجاهات:

تماسك مشروط بالتسلسل الأمريكي

أي قبول أوروبا بقيادة دبلوماسية أمريكية للملف الروسي، وتسريع إعادة تسليحها، ومعالجة أزماتها الداخلية حتى لا تُربك التخطيط الاستراتيجي.

اختلاف جوهري في تصور التهديد

ترى الولايات المتحدة صراعاً يجب إنهاؤه سريعاً؛ ترى أوروبا خصماً يعدّ لجولة أطول.

مسؤوليات أكبر لنفوذ أقل

تُحمّل الاستراتيجية أوروبا عبئاً دفاعياً أكبر دون منحها قدرة موازية لصياغة الإطار السياسي للأمن الإقليمي.

هذه ليست أسباباً للتشاؤم، بل دعوة للوضوح والواقعية.

لحظة للوضوح الاستراتيجي

تجمع الاستراتيجية بين ثلاث تحولات رئيسية:

تخفيف في توصيف التهديد الروسي

تفضيل لإنهاء سريع للحرب في أوكرانيا

توقعات غير مسبوقة لاعتماد أوروبا على نفسها

أوروبا أمام حقبة جديدة تتطلب منها إعادة تعريف دورها.

الاستقرار لن يتحقق بالافتراضات القديمة، بل بمواءمة الكلام مع القدرات، وتكييف الدبلوماسية مع الاحتياجات الأمنية، وضمان أن السلام يستند إلى ردع فعّال لا إلى تأجيل الخطر.

ما الذي يجب على أوروبا فعله الآن؟

تملك أوروبا هامشاً واسعاً من القدرة على الفعل، وللدول الأمامية دور أهم في صياغة المستقبل:

تسريع الإنتاج الدفاعي على نطاق واسع

عبر خطوط توريد طويلة الأمد ومعايير مشتركة واستثمارات منسقة.

التحول إلى الردع بالمنع (Denial) لا بالانتقام

عبر بناء القدرات والبنى التحتية والتنفيذ الكامل لخطط الدفاع الإقليمية.

تحديد موقع أوكرانيا ضمن البنية الأمنية الأوروبية

قبل أن يُفرض عليها موقعٌ أقل مما تستحق أو يخدم مصالح خارجية.

تعزيز الصلابة المجتمعية

عبر حماية المعلومات، وتطوير الدفاع السيبراني، وتأمين الطاقة والبنى التحتية.

التعامل مع روسيا كخصم طويل الأمد

حتى لو اختلف التوصيف الأمريكي.

تعليقات الزوار